Friday 21 December 2012

Hunayn ibn Ishaq




وسط مناخ ساده التسامح الديني, أبدع أهل الذمة 
وساهموا بشكل فاعل في الحضارة الإسلامية. 

نهض أهل الذمة عامة, والمسيحيون والصابئة خاصة, بدور مهم في تقدم الحضارة العربية الإسلامية, ولاسيما في العصر العباسي, ولم يقتصر هذا الدور على قيادة حركة الترجمة من اليونانية والسريانية إلى اللغة العربية فحسب وإنما ظهر بينهم عدد كبير من العلماء الذين أسهموا في إثراء الحياة الفكرية وتقدم العديد من فروع العلم والمعرفة, وبخاصة في ميدان الطب والفلسفة والفلك. كما برز من بينهم عدد من الأطباء الذين خدموا في بلاط الخلفاء والأمراء العرب المسلمين وتقلدوا مناصب رفيعة في الدولة العربية الإسلامية, كمنصب (رئيس الأطباء في بغداد), وتولى بعضهم إدارة المستشفيات فيها, وقام عدد منهم بإدارة المؤسسات الثقافية بكفاءة واقتدار كـ (بيت الحكمة) في بغداد وتقلد بعضهم رئاسة دواوين مهمة في الدولة كـ (ديوان الرسائل). وفضلاً عن ذلك كله فقد كان هؤلاء العلماء الأداة الرئيسة التي اتصل من خلالها المسلمون بعلوم اليونان وفلسفتهم, والواسطة التي انتقل من خلالها التراث السرياني واليوناني إلى بلاد فارس والشرق الأقصى. 

والواقع أنه لم يكن بإمكان أهل الذمة القيام بهذا الدور المتميز في الحضارة العربية الإسلامية لولا توافر جملة من العوامل, وفي مقدمتها التسامح الديني الذي دعا إليه الإسلام, ومارسه الخلفاء والأمراء المسلمون على أرض الواقع. فقد تمتع أهل الذمة بالحرية الدينية والفكرية, وبحماية الدولة ورعايتها. وجاء تشجيع الخلفاء والأمراء المسلمين للعلم والعلماء, بغض النظر عن الدين واللون والجنس. ليدفع أهل الذمة للإسهام عفوياً, وبحماسة شديدة, في النهضة العلمية في العصر العباسي. فسياسة التسامح, بمفهومها الشامل, جعلت أهل الذمة جزءاً أساسياً من الوحدة الاجتماعية وشريحة من شرائح المجتمع العربي الإسلامي. ولقد أشار المؤرخون المسلمون في كتاباتهم إلى أهل الذمة وعلمائهم باحترام وتقدير كبيرين وأشادوا بمكانتهم العلمية والاجتماعية, بل كان يُنظر إليهم كمسلمين. وقد عكس البيهقي, الذي عاش في القرن السادس للهجرة (الثاني عشر للميلاد) في كتابه (حكماء الإسلام) هذه النظرة, حيث نجده يضمن كتابه هذا, تراجم لعدد كبيرمن العلماء المسيحيين والصابئة وغيرهم من فئات أهل الذمة, ولا شك في أن هذا يدل على أنه كان ينظر إلى كل من يعيش داخل المجتمع العربي الإسلامي على أنه مسلم في تكوينه الاجتماعي والثقافي... إلخ, بغض النظر عن عقيدته الدينية. وسنلقي في مقالنا هذا بعض الضوء على سيرة ومكانة أحد العلماء غير المسلمين, والذي جعله البيهقي في مقــــدمة (حكـــماء الإســـلام) وهو (حنين بن أسحق). 

وقد ولد حنين بن إسحق العبادي في الحيرة (بالعراق) عام 194هـ (809م), وهو من قبائل العباد العربية التي اعتنقت المسيحية على المذهب النسطوري واستقرت في الحيرة. وكان والده إسحق صيدلانيا. ولمس الأخير في ولده رغبة جامحة لتعلم الطب, لاسيما ان هذه المهنة كانت رائجة في العصر العباسي لما تحقق لصاحبها من مكانة أدبية واجتماعية في بلاط الخلفاء والأمراء ولما تدره على صاحبها من منافع مادية طائلة. كما كان لطبيعة عمل إسحق تأثيره الكبير في توجيه تفكير ولده إلى صناعة الطب. وعلى أي حال غادر حنين الحيرة إلى بغداد طلباً للعلم وهو في الخامسة عشرة من عمره تقريباً. واستهل دراسته للطب تحت إشراف الطبيب النسطوري المشهور يوحنا بن ماسويه, الذي كان يدير في منزله (معهدا) لتعليم الطب, يطلق عليه اسم (المجلس العلمي). ويوحنا هذا هو ابن ماسويه الذي كان قد هاجر من مدينة جنديسابور في خلافة الرشيد (ت193هـ/809م) واستقر في بغداد وعمل طبيباً في بلاطه, كما عين الخليفة نفسه يوحنا بن ماسويه أميناً على ترجمة الكتب اليونانية للعربية. ويؤكد المؤرخون أن مجلس يوحنا هذا كان أفضل مركز لتعليم صناعة الطب آنذاك, ولاسيما أنه لم يكن يضم طلبة الطب فحسب وإنما كان يجتمع فيه أيضاً أهل العلم والأدب من أطباء وفلاسفة ومتكلمين وغيرهم. وأخذ حنين يخدم أستاذه يوحنا ويتعلم على يديه كما جرت العادة في ذلك العصر, وقد قرأ حنين عليه في تلك المرحلة من حياته العلمية بعض كتب الطب اليوناني مثل كتاب (فرق الطب) لجالينوس (ت201م). 

ويجمع المؤرخون على أن حنين كان يكثر الأسئلة على أستاذه يوحنا, لأنه كان يرغب في تعلم دقائق الأمور في صناعة الطب, وكان هذا الأمر يشكل إحراجاً شديداً لأستاذه أمام بقية الطلبة, خاصة عندما لم يكن باستطاعته الإجابة عن هذا السؤال أو ذاك من أسئلة حنين. ومع مرور الأيام ضاق صدر الأستاذ بتلميذه وغضب منه يوماً وقال له: (ما لأهل الحيرة والطب, عليك ببيع الفلوس في الطرق). ثم طرده من داره, فخرج حنين باكياً مكروباً. ويعلق القفطي صاحب كتاب (إخبار العلماء بأخبار الحكماء) على هذه الحادثة بقوله: إن غضب يوحنا من تلميذه لا يعود إلى ما كانت تسببه أسئلة حنين من إحراج فحسب وإنما لأن أهل جنديسابور (ويوحنا في الأصل منهم) كانوا يعتقدون أنهم وحدهم أهل هذا العلم, أي الطب, ولهذا كانوا ينظرون إلى غيرهم باستعلاء وغطرسة, ويحاولون ألا يعلموا مهنة الطب إلا لأولادهم وأبناء بعضهم. ويؤكد هذه الحقيقة ابن أبي أصيبعة في كتابه (عيون الأنباء في طبقات الأطباء) بقوله: إن حنين كان من المدينة التي اشتهر أبناؤها بالصيرفة, أي الحيرة, وكان أطباء جنديسابور يكرهون أن يدخل في مهنتهم أبناء التجار. 

مواجهة التحدي 

لقد شكلت سخرية يوحنا من تلميذه وطرده من مجلسه تحدياً صارخاً لحنين بن إسحق, حيث قرر أن يصبح طبيباً متميزاً في ظل خلافة إسلامية توفر فرص وأسباب النبوغ العلمي لكل أبناء المجتمع. ويقول أحد المؤرخين إن حنين أقسم يميناً معظمة بأن يتعلم اليونانية ويتقنها إتقاناً لا يضاهيه فيها أحد في عصره, لأن هذه اللغة كانت شرطاً أساسياً لمن يرغب تعلم الطب من مصادره الأصلية, وبالفعل توارى حنين عن بغداد عدة سنوات. ويبدو أنه بدأ تعلم اليونانية, حيث سافر إلى بعض المدن الناطقة بها في آسيا الصغرى التي كانت آنذاك جزءاً من بلاد الروم, ثم سافر إلى الإسكندرية لهذا الغرض أيضاً. ونجح في إتقانها أيما إتقان, حتى أنه غدا ينشد شعراً باليونانية لأمير شعراء اليونان هوميروس. ثم سافر حنين إلى البصرة حيث تعلم العربية على أيدي عدد من علماء اللغة والنحو الذين كانت تزخر بهم هذه المدينة آنذاك. ويبدو أنه تعلم في هذه الفترة أيضاً اللغة الفارسية. وعاد حنين إلى بغداد بعد رحلاته العلمية هذه وقد أتقن أربع لغات هي: السريانية (وهي لغته الأم) واليونانية والفارسية والعربية. 

إن عودة حنين بن اسحق إلى بغداد ثانية, كانت بداية مرحلة جديدة في سيرته العلمية والتي استهلها بالترجمة لبعض الأطباء المشهورين في العاصمة العباسية, وكان في مقدمتهم الطبيب النسطـوري جبرائيل بن بختيشوع الذي كان من أطباء المأمون (ت218هـ/832م) آنذاك. وقد ترجم حنين لجبرائيل هذا كتباً كثيرة من كتب الطبيب اليوناني جالينوس, من اليونانية إلى السريانية والعربية. وقد اكتشف جبرائيل خلال ذلك الإمكانات العلمية الفذة التي يتمتع بها حنين, ولهذا كان يحترمه احتراماً كبيراً ولا يخاطبه إلا بعبارة (يا معلم حنين) بل توقع جبرائيل لحنين الفتى مستقبلا علمياً باهراً, وكان يقول دائما:ً لئن مد الله لحنين بالعمر (ليفضحن) سرجيوس الرأسعيني (ت536م), الذي كان أول من ترجم بعضاً من علوم اليونان إلى السريانية, أي سيكشف ما وقع فيه الأخير من أخطاء. ولم يمض وقت طويل حتى اطلع يوحنا بن ماسويه على بعض ما ترجمه حنين بن إسحق لجبرائيل, فذهل من دقة عباراته ووضوح معناها وجمال أسلوبها, ولم يصدق بداية أن مترجمها حنين الذي سبق أن سخر منه وطرده من مجلسه. وشعر حنين بالندم الشديد وأخذ يسعى بكل الوسائل لاسترضائه, حتى عادت العلاقة بينهما طيبة للغاية, وغدا حنين مبجلاً عند أستاذه واستأنف المواظبة على حضور مجلسه العلمي, كما ترجم له أثناء ذلك كتباً كثيرة من اليونانية وبخاصة من كتب جالينوس, بعضها إلى السريانية وبعضها الآخر إلى العربية. ويبدو أن إعجاب يوحنا بتلميذه بلغ درجة أن أهداه كتاباً بعنوان (النوادر الطبية). 

أخذ الصيت العلمي لحنين بن إسحق ينتشر في بغداد وخارجها, حتى وصل إلى الخليفة المأمون من خلال طبيبه جبرائيل الذي كان يثني على ذكاء حنين وإمكاناته العلمية في مجلس الخليفة. وكان المأمون قد أسس (بيت الحكمة) في بغداد وقرر ترجمة كتب التراث اليوناني إلى العربية, وأجرى اتصالاته المعروفة مع إمبراطور الروم, ونجح في الحصول على أحمال منها. وعندئذ استدعى المأمون عدداً من أمهر التراجمة لنقلها من اليونانية إلى العربية, وكان حنين بن إسحق في مقدمتهم على الرغم من أنه كان لا يزال في مقتبل العمر. وطلب المأمون منه أن ينقل كتب الفلاسفة اليونان إلى العربية كما طلب منه, في الوقت نفسه, إصلاح ما ينقله غيره, فامتثل حنين لطلب الخليفة, وغدا حنين هو المشرف على شئون الترجمة في بيت الحكمة. ويقول ابن أبي أصيبعة: (إن المأمون كان يعطي حنين بن إسحق من الذهب زنة ما ينقله من الكتب إلى العربية مثلاً بمثل). 

من المحنة إلى القمة 

وقد انتشر الثناء على حنين في أرجاء المجتمع العباسي, وغدا كما يقول القفطي (ينبوعاً للعلم), واتصل خبره بالخليفة المتوكل على الله (ت247هـ/ 861م), فأمر بإحضاره وأقطعه إقطاعات كبيرة وقرر له راتباً شهرياً قدره خمسة عشر ألف درهم. ولكن تعرض حنين, في عهد هذا الخليفة, إلى جملة من المتاعب الخطيرة, فالطريق إلى القمة غالباً ما تكون مليئة بالأشواك ومحفوفة بالمخاطر, وكانت النكبة الأخيرة التي حلت به (244هـ/ 858م), من تدبير زملائه الأطباء المسيحيين الذين يعملون معه في بلاط المتوكل على الله, فقد نجح هؤلاء في إقناع الخليفة, بأن حنين لا يؤمن بالمسيحية ولا يقيم اعتباراً لرموزها ولا يؤمن بالوحدانية والرسل واليوم الآخر... إلخ. ووقع حنين في الشرك الذي نصب له بإحكام فزجه الخليفة في السجن الذي عانى فيه صنوفاً من العذاب, بحيث كان قاب قوسين أو أدنى من الموت. ويقول حنين في رسالة كتبها بنفسه عن المحن والشدائد التي لحقت به والتي نقلها ابن أبي أصيبعة إن السبب الرئيس لهذه المحنة هو حسد الأطباء المسيحيين له لما كان يتمتع به من إمكانات علمية ولما تحقق له من سمعة رفيعة ومكانة أدبية ومادية في بلاط الخليفة وكبار رجال الدولة. ولكن لم تمض بضعة أشهر حتى تكشفت الحقيقة للخليفة وتأكدت له براءة حنين مما نُسب إليه, فأطلق سراحه وأنزل أقسى العقوبات بالذين تآمروا عليه, ثم استأنف حنين تسلم راتبه الشهري, كما تسلم مرتبات الفترة السابقة, ومنحه الخليفة مكافأة إضافية قدرها مائتا ألف درهم ووهبه أيضاً ثلاث دور كبيرة من دوره ملكاً خالصاً له ولأولاده من بعده وقد زودت بكل ما يلزمها من الأثاث. ومحاكاة لموقف الخليفة وسخائه تدفقت على حنين منح وهبات لا تعد ولا تحصى من رجال الدولة والبلاط... إلخ. ومنذ ذلك الوقت غدا حنين الطبيب الخاص والأثير عند الخليفة, الذي عينه مديراً لبيت الحكمة ورئيساً للأطباء جميعاً ووضع في خدمته أمهر الكتاب والتراجمة. واستمر حنين موضع احترام وتقدير الخليفة المتوكل وكل الخلفاء الذين اعتلوا عرش الخلافة العباسية بعده حتى وفاته عام 264هـ (879م). 

وقد عاش حنين بعد أن اجتاز المحنة الأخيرة عشرين عاماً مليئة بالعطاء العلمي. حيث أنجز خلالها معظم ترجماته وأهم مؤلفاته. ولقد سارت, في حياة حنين العلمية, الترجمة والتصحيح والتأليف وممارسة الطب... جنبا إلى جنب, وقد صاغت هذه النشاطات جميعها تراثه العلمي. أما بالنسبة إلى الترجمة فيمكن القول إنه بالرغم من أن ترجماته من اليونانية إلى العربية والسريانية كانت تغطي الكثير من فروع العلم والمعرفة آنذاك, إلا أنها كانت تتركز في ميدان الطب, فقد ترجم معظم مؤلفات الطبيب اليوناني (جالينوس) من اليونانية إلى السريانية والعربية, حيث ترجم منها نحو خمسة وتسعين كتاباً إلى السريانية, ونحو تسعة وثلاثين كتاباً إلى العربية, كما ترجم حنين نحو خمسة عشر كتاباً من مؤلفات الطبيب اليوناني (أبقراط) (ت399ق.م) مع تفسير (جالينوس) لها. وقام حنين بمراجعة وتنقيح بعض ما ترجمه تلاميذه, وقد بلغت نحو ستة كتب تمت ترجمتها من اليونانية إلى السريانية, ونحو سبعين كتاباً تمت ترجمتها من اليونانية إلى العربية. كما قام حنين أيضاً بمراجعة وتصحيح ما ترجمه الأطباء القدامى من اليونانية إلى السريانية, أمثال: سرجيوس الرأسعيني وأيوب الرهاوي وغيرهما والتي بلغ عددها نحو خمسين كتاباً. 

ويؤكد المؤرخون أن الترجمة من اليونانية إلى السريانية كانت تتم غالباً من أجل الأطباء والعلماء المسيحيين في الدولة العباسية أمثال: جبرائيل ويوحنا وغيرهما, في حين كانت الترجمة من اليونانية إلى العربية تتم من أجل الخلفاء والأمراء والعلماء العرب والمسلمين أمثال: المأمون والمتوكل والوزير محمد بن عبدالملك الزيات, الذي كان ينفق شهرياً نحو ألفي دينار للتراجمة, وآل شاكر الذين كانوا ينفقون بدورهم نحو خمسمائة دينار شهرياً للتراجمة أيضاً, وكان حنين من بينهم. وتشير المصادر إلى أن الأخير كان قد ارتحل أكثر من مرة إلى بلاد كثيرة للحصول على كتب التراث اليوناني التي كان يرغب في ترجمتها, كبلاد الروم وبلدان المشرق العربي وغيرها. فقد تنقّل على سبيل المثال بين مدن العراق والشام ومصر بحثاً عن نسخة من كتاب (البرهان) لـ(جالينوس), ولكنه لم يظفر بعد هذا العناء إلا بنصفه في دمشق, وكانت هذه الرحلات العلمية في معظمها تتم على نفقة الخلفاء وكبار رجال الدولة والبلاط والعلماء. وكان حنين يتخيّر النسخة التي يرغب في ترجمتها من هذا الكتاب أو ذاك, حيث كان يقارن بين النسخ إذا توافرت, ويختار الأقرب إلى الأصل والأكثر وضوحاً, وكان يحرص أحياناً على أن يطلع على الترجمات السابقة للكتاب الذي يرغب في ترجمته إن وجدت, قبل الشروع في ترجمتها وذلك بغية الاستنارة بجهود السابقين. ويقول حنين: إن هذا كان من تقاليده العلمية الراسخة. وكانت ترجمة حنين أبعد ما تكون عن الترجمة الحرفية لأنه كان يهتم بإيضاح المعنى والدقة والإيجاز والأمانة العلمية. ولم يكن حنين يكتفي بالترجمة وإنما كان يضيف للكتاب المترجم, أحياناً, شروحاً وتفاسير لبعض المسائل الصعبة الواردة فيه, ويؤكد القفطي هذه النقطة بالقول إن حنين (كان جليلاً في ترجمته, وهو الذي أوضح معاني كتب (أبقراط) و (جالينوس) وكشف ما استغلق منها). 

أما تراث حنين بن اسحق في ميدان التأليف, فقد كان تراثاً ثرياً كما هي الحال بالنسبة إلى الترجمة , ويورد ابن أبي اصيبعة أسماء نحو مائة كتاب ونيف من الكتب التي ألفها حنين, ووزع عناوينها ما بين (كتاب) و(جمل) و (ثمار) و (جوامع) و (فصول) و(مسائل) و(تفسير) و (رسالة) و(كناش) و (كلام) و(اختصار) و (مقالة). وعلى الرغم من تنوع الموضوعات التي تناولها في مؤلفاته هذه بين الطب والفلسفة والتاريخ والفلك وغيرها. فإنه مما لاشك فيه أن عدداً من هذه الموضوعات, ولاسيما الطبية منها أوحت له بها أو كتبت في ضوء مؤلفات الأطباء اليونان أمثال (جالينوس) و(أبقراط)... بل لا نبالغ إذا قلنا إن حنين بن اسحق كان متخصصاً بجالينوس, فقد تمكن, من خلال ترجماته ومؤلفاته, من التعمق بفكر جالينوس, وفلسفته ومنهجه, بل يعد أعظم شارح له. وتجدر الإشارة إلى أن حنين استخدم في مؤلفاته طريقة علماء الإسكندرية, أي طريقة السؤال والجواب, كما كان أميناً في عمله حيث كان يحرص على ذكر المصادر التي اعتمد عليها في مؤلفاته. 

أما ممارسة حنين لمهنة الطب, فهي أشهر من أن تُذكر, وربما كان تفوّقه في ميدان الطب يعود إلى نبوغه في الترجمة وقد خدم حنين بالطب عدداً من الخلفاء أمثال المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل. وكان الطبيب الوحيد الذي نجح في علاج المتوكل بعد أن فشل أطباء البلاط جميعا في ذلك. ولم يخدم حنين في الطب أصدقاءه فحسب, بل أولئك الذين كانوا يكيدون له, حيث كانوا يهرعون إليه عندما يداهمهم مرض من الأمراض الصعبة, وقد شهد المؤرخون بكفاءة حنين في ميدان الطب, فقال ابن النديم: (كان حنين فاضلاً في صناعة الطب), وقال القفطي: (كان حنين طبيباً حسن النظر في التأليف والعلاج ماهراً في صناعة الكحل). وقال ابن خلكان: (كان إمام وقته في صناعة الطب). 

تلاميذه 

لم يقتصر تراث حنين في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية على ما خلفه من مؤلفات وترجمات, وإنما أسهم في خلق (مدرسة) لها تقاليدها ومناهجها في الطب والترجمة, وذلك من خلال تلاميذه الذين نهجوا طرائقه في التأليف والترجمة والممارسة. وكان في مقدمة هؤلاء التلاميذ ابنه إسحق الذي وصفه ابن خلكان بأنه (أوحد عصره في علم الطب, وكان يلحق بأبيه في النقل وفي معرفته في اللغات وفصاحته فيها). ولكن ترجمات إسحق كما يقول ابن أبي أصيبعة كانت تتركز في ميدان الفلسفة أكثر من الطب. وكان ابن أخت حنين واسمه حبيش بن الحسن من تلاميذه النوابغ, فقد علم منه صناعة الطب وسار على نهجه في الترجمة , وكان من تلاميذ حنين الطبيب المعروف عيسى بن علي, صاحب المصنفات الكثيرة, وعمل طبيباً للخليفة المعتمد على الله (ت279هـ/892م). وعلى أي حال لقد حمل هؤلاء وغيرهم من تلاميذ حنين رسالته العلمية وأسهموا بترجماتهم ومؤلفاتهم في إثراء النهضة العربية الإسلامية. 

قيمة التراث العلمي 

إن القيمة العلمية لتراث حنين بن اسحق لا تقتصر على عدد الكتب التي ترجمها, أو تلك التي ألفها, أو على عدد الخلفاء أو الأمراء الذين خدمهم بعلمه, أو عدد الذين تتلمذوا على يديه, فحسب, وإنما تحدد قيمته أيضاً بمدى تأثيره في الحركة العلمية التي شهدها عصره والعصور التالية. ويجمع المؤرخون على أن تراث حنين كان أحد مصادر العلم والمعرفة لأجيال من العلماء والأطباء, المسلمون منهم وغير المسلمين, المعاصرون منهم وغير المعاصرين. فترجمة التراث اليوناني إلى العربية, على يد حنين وغيره من فرسان الترجمة في القرنين الثالث والرابع للهجرة (التاسع والعاشر للميلاد), تعد مأثرة خالدة من مآثر بناة الحضارة العربية الإسلامية, خلفاء وعلماء, على السواء, فالترجمة أنقذت التراث اليوناني من الفناء وأعادت له الحياة, بعد أن كان معزولاً عن حركة التاريخ, بل بعد أن كان محتقراً ومهملاً تأكله القوارض في الأقبية البيزنطية, وبناء على ذلك, فإن نشاطات حنين في ميدان الترجمة , أتاحت للعلماء العرب المسلمين وغير المسلمين الإفادة من التراث اليوناني, الذي شكل واحداً من العوامل المهمة التي أسهمت في بناء الحضارة العربية الإسلامية وتقدمها, أما إذا جئنا إلى مؤلفات حنين نفسها, فإننا نجد أن تأثيرها في النهضة العربية الإسلامية لم يكن يقل بحال من الأحوال عن ترجماته. فقد أسهم حنين, مثلاً, إسهاماً مباشراً في إيجاد المصطلح الطبي العربي الإسلامي, فعمله, في الترجمة والتأليف, أدى به إلى البحث عن المصطلحات العربية المقابلة للمصطلحات السريانية واليونانية في الطب والفلسفة... إلخ, ومن ناحية أخرى, فقد أثبتت الدراسات العلمية الحديثة أن حنين تجاوز في إنتاجه العلمي الكثير من النتائج التي كان قد توصل إليها أبناء عصره في الكثير من ميادين الطب. وإذا أخذنا كتاباً واحداً من مؤلفاته, وهو كتب (العشر مقالات في العين), وهو كتاب مطبوع ومتداول فيما بيننا, نجد أن هذا الكتاب قد شكّل آنذاك ثورة علمية في تاريخ طب العيون, فهو أول كتاب تم تأليفه باللغة العربية, وفقاً لمنهجية علمية في ميدان محدد وهو طب العيون, وزوّده بأول رسوم عرفت في تشريح العيون. كما أن جميع أطباء العيون, معاصرين ومتأخرين, في بلاد فارس والعراق والشام ومصر والأندلس, قد اقتبسوا منه مقتطفات مطوّلة في مؤلفاتهم, فالرازي (ت 314هـ/926م), على سبيل المثال, أفاد منه في كتابه (الحاوي), ونقل فقرات مسهبة منه, بل اقتبس مقال حنين عن العمليات التي تجــرى في العين, كما أن طبيب العيون المشهور, علــي بن عيــسى (ق 5هـ/11) قد ضمن كتابه (تذكرة الكحّالين), سائر ما كان حنين قد نقله عن اليونان في طب العيون. 

ولم يقتصر تأثير تراث حنين في النهضة العلمية العربية الإسلامية فحسب, وإنما امتد إلى النهضة الأوربية الحديثة, ويجب أن نقرر, بداية, أن الغرب لم يجد أمامه, وهو يتلمس بدايات نهضته الحديثة. والتي قامت أساساً على إحياء التراث اليوناني, سوى الترجمة العربية لمعظم هذا التراث. وهنا يتجلى دور حنين بن اسحق, وغيره من شيوخ الترجمة , في نهضة الغرب, فمن المعروف أن معظم كتب جالينوس, التي ترجمها حنين من اليونانية إلى العربية, قام جيرار الكريموني (1178م) بترجمتها من العربية إلى اللاتينية. ولولا ذلك لضاع على الغرب إمكان الاتصال بتراث هذا الطبيب اليوناني العملاق. ومن ناحية أخرى, لم يتسلم الغرب التراث اليوناني بترجمته العربية فحسب, وإنما أفاد من شروح العلماء العرب ونقدهم وتصحيحهم لهذا التراث, أي نقل الغرب تراث اليونان من العربية إلى اللاتينية, وقد دبّت فيه الحياة واكتسب حضوراً جديداً. أما إذا جئنا إلى مؤلفات حنين نفسها, والتي ترجمت من العربية إلى اللاتينية, فإننا نجد أن تأثيرها في نهضة الغرب لم يكن ليقل عن ترجماته, فقد كان لكتاب حنين المعروف باسم (المسائل في الطب), مثلاً, مكانة كبيرة في طب الغرب, حيث ترجم منذ فترة مبكّرة من العصور الوسطى من العربية إلى اللاتينية, واتخذ مدخلاً رئيساً للدراسات الطبية في الغرب. كما كان لكتاب حنين (العشر مقالات في العين) دور كبير في تقدم طب العيون في الغرب. علماً أن هذا الكتاب كان قد وصل إلى الأوربيين وقد انتحله أحد التراجمة الغربيين المشهورين, وهو قسطنطين الإفريقي (1087م) الذي ألف كتاباً بعنوان: (كتاب قسطنطين الإفريقي في طب العيون). وأثبتت الدراسات العلمية, التي قام بها علماء الغرب أنفسهم, بأنه يتضمن تسعة مقالات كاملة مأخوذة من كتاب حنين بن اسحق (العشر مقالات في العين), ودون أن يشير قسطنطين إلى حنين لا من قريب ولا من بعيد, ولم يدرك أن الزمن كفيل بالكشف عن سرقته العلمية. 

لقد كان حنين بن اسحق ثمرة من ثمرات الحضارة العربية الإسلامية, وأداة من أدوات تقدمها, وكانت سيرته شاهداً على أخلاق أمة متحضّرة عاملت أبناءها كافة بتسامح ومساواة, ووفرت لهم الحرية الروحية والفكرية. ولو عاش هذا العالم السنطوري في ظل الدولة البيزنطية (المسيحية) لما تمكن من النبوغ لأن الاضطهادات الدينية والسياسية والفكرية والاقتصادية, التي كانت تعصف بالمجتمع البيزنطي آنذاك قد دمّرت الروح واغتالت العقل والفكر 

No comments:

Post a Comment